السؤال
والدتي -حفظها الله وغفر لها- أغلب أوقاتها منزعجة وتتذمر، حاولت مسايرتها لكن لم أستطع، إن فعلتُ ما قالت تذمرتْ، وإن لم أفعله تذمرتْ أو غضبتْ علي... أحيانا أفضِّل الصمت حتى تفرغ ثم أخرج لكنها تزداد غضبا.. تحاول أن تبين أنها ليست بحاجة لي أنا وأخواتي، فتقوم بأعمال المنزل وحدها، ولا تأذن لنا بالمساعدة فأتركها وإن تقطع قلبي عليها، لكنها أحيانا تكون الصديقة الوفية لي، وأستغرب هذا الانقلاب فجأة.. أنا لا أستطيع مناقشتها في عصبيتها؛ لأنها ستنكر، وهذا حالنا منذ سنين، تعبت والله من البحث عن الحلول. أرشدوني مأجورين.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الأخت السائلة الكريمة..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جميل منك أن تحبي أمك، وتحرصي على برِّها، وهذا هو الأصل والواجب الشرعي على كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله، ويلتزم أوامر دينه. والله تعالى أمر ببر الوالدين والإحسان إليهما، وجعل ذلك بعد الأمر بتوحيده، فقال سبحانه: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" [النساء:36].
وقال تعالى: "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" [الأنعام:151]، كما ورد التفصيل في الإحسان إليهما بذكر صوره وأسبابه وأحواله كما في قوله تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً" [الإسراء:23].
وكذا قوله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [الأحقاف:15].
تأملي –أختي الكريمة– هذه الآيات، واقرئيها المرة تلو المرة. ثم اسألي نفسك:
أين أنت منها؟ واعلمي أن التزامك الذي تذكرين يأتي بر الوالدين في قائمة أولوياته، وأن التفريط فيه أو مخالفته لا يتفق مع الالتزام.
والأصل في الإنسان السوي صاحب القيم الفاضلة والأخلاق السامية أن يرد الإحسان بالإحسان، ويرد المعروف بالمعروف "هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" [الرحمن:60].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" (سنن أبي داود، وصححه الألباني)، ومع ذلك فقد أوصى الله ببر الوالدين لما في طبع الإنسان من الجحود والنكران "إنَّ الإنسانَ لظَلُومٌ كَفَّار". ولا شك ولا ريب أن الوالدين هما أكثر الناس معروفا وفضلا وإحسانا تجاه الولد بعد الله سبحانه.
ألم تسألي نفسك:
كم سهرت أمك لتنامي؟
وكم جاعت لتأكلي؟
وكم تعبت لترتاحي؟
ألم تفكري:
كم حملتك في بطنها؟
وكم قاست عند ولادتها؟
وكم أرضعتك من ثديها؟
كل ذلك وهي لم تطلب منك جزاءً ولا شكوراً، فلا يعقل بعد ذلك أن تجازى بالعقوق فهو من أكبر الكبائر، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين.." (رواه البخاري).
اعلمي يا أختي –هداك الله لطاعته- أن من خسر بر والديه فقد خسر خسراناً عظيماً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة" (رواه مسلم). قال النووي في شرح الحديث: (وفيه الحث على بر الوالدين، وعظم ثوابه. ومعناه أن برهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة، أو النفقة، أو غير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه).
لقد حرم الله توجيه كلمة (أف) للوالدين أو أحدهما، وهي في النطق حرف واحد، فقال سبحانه: "فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا".
أختي الكريمة:
الواجب عليك أن تحملي نفسك، وتجتهدي في بر والديك عموماً، ووالدتك خصوصا، فقد خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالوصية حين سأله صحابي فقال يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال ثم من؟ قال: ثم أمك. قال ثم من؟ قال ثم أبوك" (رواه البخاري ومسلم).
أختي السائلة الكريمة:
ينبغي عليك أن تعاملي أمك بالرفق واللين، واعلمي أن رعاية الوالدين والقيام بحقهما على مراتب، وكلها أمر الله بها وفصلها في هذه الآية: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً".
الأولى: في قوله تعالى: "فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" هو أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب أن لا يصدر من الولد أو البنت ما يدل على الضجر والضيق، وسوء الأدب ولو كان حرف (أف).
الثانية في قوله تعالى: "وقل لهما قولاً كريماً" وهي مرتبة أعلى إيجابية، بأن يكون كلامه لهما بشيء من الإكرام والاحترام.
الثالثة: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" وتظهر الرحمة والرفق في أعلى درجاتها حتى ليشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان. فتخيلي للذل جناحاً وأثبتي لذلك الجناح ضعفاً، ثم أنت تخفضينه رغم ذلته، فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً، ولا يرفض أمراً. وكأنما للذل جناح يخفضه الابن البار والبنت البارة إيذاناً بالسلام والاستسلام.
الرابع: "وقل: رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" إنها الذكرى الحانية. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الوالدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرحمة والرعاية والحنان. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء.
أختي الكريمة:
1- احرصي على بر والدتك قبل أن تطلب منك، وتنفيذ رغباتها قبل أن تصدر عنها. فالبر أعلى مرتبة من الطاعة، فالطاعة أن تلبي طلبها بعد أن تطلب، لكن البر أن تحققي رغبتها قبل طلبها، وتبتدئيها بالإحسان.
2- احرصي على أن تأخذي انتقادات أمك -مهما قست- على أنها في مصلحتك، وأنها نابعة من حبها لك، ولا تقارني أسلوبها معك بأسلوبها مع غيرك، فقد يكون لديها ما يبرر ذلك، إما من تقصيرك أو من زيادة البر من قبل غيرك، وما ذكرتِه من سوء ظنها بك، هو وجهة نظرك، لكنه من وجهة نظرها كأم تراه حرصاً عليك وحماية لك، فقدري ذلك منها، واجتهدي في فهم دوافعها، وغلّبي دائما حسن الظن، وأبعدي وساوس وظنون السوء.
3- احرصي على عدم الرد عند انتقادها لك مهما كان الأمر، وتذرعي بالصبر وتجملي بالسكوت، وعندما تهدأ يمكن بكل أدب واحترام وبأحسن الأساليب أن تذكري وجهة نظرك وما ترينه من خطأ، مع التأكيد اللفظي على حبك لها وبرك بها، وكذا التأكيد الفعلي بتقبيل رأسها أو يدها والابتسام لها.
4- اغتنمي حياتها في برها، فإنها باب لك إلى الجنة يوشك أن يغلق –نسأل الله تعالى أن يمد في عمرها ويمتعك ببرها- فإذا انتقلت إلى جوار ربها -وكلنا ميتون- فلن تجدي هذا الباب، وحينئذ لا ينفع الندم، فاحرصي على برها، واعلمي أن بر الوالدين نوع من الجهاد، والجهاد فيه مشقة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه فاستأذنه في الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم أحي والداك؟ قال نعم. قال (ففيهما فجاهد) (رواه البخاري ومسلم).
5- احرصي على طلب دعاء والديك لك بالتثبيت والهداية وصلاح الحال، فدعوة الوالدين مستجابة، واجتهدي أنت في الدعاء بأن يعينك على بر والديك ووالدتك على وجه الخصوص، واعلمي أنك إن كنت صادقة في الحرص على البر فسيعينك الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وإذا استعنت فاستعن بالله" وقال "إن تصدق الله يصْدُقْك".
6- إذا صدر منك ما يخالف البر بالوالدين فسارعي بالتوبة إلى الله تعالى منه، واعملي لذلك أعمالاً صالحة تكفرينه بها من استغفار أو صلاة و صيام وصدقة ونحو ذلك.
نسأل الله تعالى أن يوفقك لبر والديك، وأن يمتعك ببرهما وحياتهما، وأن يرزقنا جميعا البر بالوالدين، وأن يغفر لنا كل تقصير. والحمد لله رب العالمين