أسس وقواعد الحكم في الحضارة الإسلامية
1- حق الأمة في اختيار الحاكم وتقويمه:
فالأمة
صاحبة الحق في اختيار الحاكم ومبايعته، وفي الإشراف على سياسته وتصرفاته،
ولها حق تقويمه إذا ابتعد عن طريق الصواب، وكل مسلم بالغ عاقل من حقه أن
يشترك في بيعة الحاكم، وما يلزم في اختيار الحاكم هو اختيار أغلبية الأمة
ممثلة في أهل الحل والعقد وهم مجلس الشورى.
وليس من الضرورى أن يكون
هناك إجماع على شخص رئيس الدولة الإسلامية، فمن المعروف تاريخيًّا أن
المسلمين جميعًا لم يجمعوا على اختيار حاكم، فالذين بايعوا الخلفاء
الراشدين هم أهل المدينة، وبعض المسلمين من أهل مكة.
ويُعزل الحاكم إذا
ثبت عجزه وفساده، ولكن بعد أن يبذل له المخلصون من أبناء الأمة وعلمائها
النصح بكل الطرق والوسائل التي ترده إلى الحق، فإن استجاب ورجع إلى الحق
فلا ينبغي عزله، إلا إذا لم يستمع لنصح الناصحين وإخلاص المخلصين، وتعذر
تعذرًا شديدًا إصلاح حاله، وظهر استخفافه بمصالح المسلمين، وعدم اهتمامه
بما يحفظ على المسلمين حقوقهم وعزتهم وكرامتهم. وذلك بشرط القدرة على عزله
دون حدوث فتنة تؤدي إلى ضرر يفوق الضرر من بقائه، فإن تأكد العجز عن عزله
دون فتن مهلكة، فالصبر على ظلمه أولى.
2- الشورى:
فالشورى ركن أساسي
من أركان الحكم الإسلامي، قال سبحانه: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]،
وقال أيضًا: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38]، وكان ( يستشير أصحابه
كثيرًا. وكذلك كان الخلفاء
الراشدون -رضي الله عنهم- من بعده يستشيرون
أهل العلم والخبرة في كل الأمور، كاختيار القواد، وتسيير الجيوش، وتوزيع
الغنائم، كما كانوا يرجعون إلى الفقهاء في المسائل التي لا يجدون لها حكمًا
ظاهرًا في الكتاب والسنة.
وقد كون أبوبكر -رضي الله عنه- مجلس شورى
يعرض عليه أي مسألة ليس فيها نص قرآني أو نبوي صريح، وكان عمر -رضي الله
عنه- يمنع كبار الصحابة من الخروج من المدينة حتى يستشيرهم عند الحاجة.
وهذه
الشورى لا تكون في أمر فيه نص صريح الدلالة من كتاب الله أو سنة صحيحة،
فهذه الأمور لا دخل للشورى فيها، فرسول الله كان يلتزم الشورى، ولكن في
الأمور التي ليس فيها نص من كتاب الله، ولم ينزل الوحي يبين للرسول ( ما
يفعله فيما وقع من المسائل، وتتحقق الشورى في مظهرين:
الأول: اختيار
الحاكم المسلم القادر على القيام بالمسئولية، ومبايعته على العمل بكتاب
الله وسنة رسوله (، فإن تمت البيعة كان له السمع والطاعة دون ضغط أو إكراه.
الثانى:
عدم استبداد الحاكم بالسلطة، فمن حق كل مسلم أن يبدي رأيه بكل حرية، وبكل
قوة في كل أمر من أمور الدولة، ومن واجب الحاكم أن يستمع إليه، ويستضىء
برأيه إن كان فيه الصواب، هذا وإن كان لكل فرد أن يعبر عن رأيه فإنه لا يجب
استشارة العوام في مهام الأمور، لأنهم لا يستطيعون تقدير الأمور تقديرًا
صحيحًا، وإنما يستشار أهل الحل والعقد والحكمة فيمن توفرت فيهم شروط من
يستشار، مثل العلم، والتقوى، والورع، وحسن التدبير، والتفكير.
وأهل الحل
والعقد: هم جماعة من الأمراء والحكام -والعلماء ورؤساء الجند وسائر
الرؤساء والزعماء في كل المصالح، الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات
والمصالح العامة.
وقد ركز الإسلام على الشورى في نظام الحكم؛ لما لها من آثار طيبة على حياة الفرد والمجتمع، ومن هذه الآثار:
- أنها تتفق مع ما قرره الإسلام من احترام للفرد والاعتراف بشخصيته في إطار مصلحة الجماعة.
-
أنها طريق مضمونة للوصول إلى أصح وأصوب الآراء في موضوع ما من الموضوعات
التي تدخل في نطاق الشورى، وبالشورى يحترم الحاكم مشاعر المحكومين وحقوقهم؛
فهم شركاء في الحكم.
-تحفظ حقوق الشعب، وتصحح مسار الحكام، وتضمن استقامتهم وحسن تدبيرهم لأمور الدولة.
وبعد، فهذه هي الشورى الإسلامية، وهي الشورى الحقيقية التي تقوم على الحرية في إبداء الرأي، دون خوف أو إكراه.
3- العدل:
أمر
الإسلام بالعدل، وجعله غاية الحكم الإسلامي وهدفه، والعدل هو: إعطاء كل ذي
حق حقه كاملاً غير منقوص. وهذا العدل مسئولية الحاكم، وواجب من الواجبات
المفروضة عليه، والأمة لها الحق في أن تحاسب الحاكم إذا ظلم أحدًا. ويشمل
العدل كل الحقوق المتعلقة بالأرواح والأعراض والحريات والأموال، للمسلم
وغير المسلم.
وتحدثت كثير من الآيات في القرآن عن العدل، وحذرت من الظلم
وعواقبه، قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم الله لعلكم تذكرون} [النحل: 90]،
وقال رسول الله (: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].
ومن
العدل أن يكون الناس أمام القانون سواء، فلا فرق بين شريف ووضيع، ولا غني
وفقير، فالعدل يخضع له الجميع، وبذلك يكون العدل هو أساس استمرار الدول
والحفاظ عليها، يقول ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت
كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
ومن أجل أن يتحقق العدل
فلابد له من قوة تحميه، ولا بد أن يكون حاكمًا لا خاضعًا، ولذلك نجد
الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحرص على جعل القضاء الذي يقيم العدل
مستقلاً عن كل سلطة، حتى عن سلطة الحاكم، وصار ذلك مبدأ من مبادئ الحكم
الإسلامي، فعندما تولى عمر الخلافة، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، عين لكل
إقليم قاضيًا مستقلاً، ونظم السلطة القضائية وميزها
عن غيرها.
إن
العدل يشعر المواطن بالأمن على ماله وعرضه وسائر حقوقه، ففي ظل العدل تختفي
الجريمة، وينصرف كل إنسان إلى عمله، ويسهم في بناء مجتمعه وأمته، وبالعدل
يجنى الإنسان ثمرة عمله وتعبه، وينطلق في ميادين التنافس الشريف في ميادين
الخير،
وبالعدل تتم المساواة، ويتفاضل الناس بحسب قدراتهم وجهدهم. إن الإسلام سبق
كل الذين دَعَوْا إلى العدل، وأرسى دعائمه، وقد طبق العدل أروع تطبيق في
حياة المسلمين.
4- طاعة الحاكم:
طاعة الحاكم هي إحدى قواعد الحكم
الإسلامي، وذلك ما دام الحاكم منفذًا لحدود الله عز وجل، وما لم يأمر
بمعصية، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم} [النساء: 59].
وعلى المسلم أن يسمع ويطيع للحاكم، فيما أحب
وكره، إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر الحاكم بمعصية فلا طاعة له، قال (:
(على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية،
فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) [ابن ماجه].
5- الحرية:
لقد احترم
الإسلام الحرية الفردية، فلم يكره أحدًا على أن يعتنق فلسفة معينة، ولم
يُرغمه على أن يعيش حياته وفق نظرية محددة، بل إن لكل فرد في الدولة
الإسلامية حريته الكاملة في أن يفكر وأن يختار أسلوب حياته، وأن يعبر عن
رأيه بشرط ألاَّ يَحُدَّ من حرية الآخرين.
وفي مجال العقيدة الدينية،
فقد أعطى الإسلام لأفراد الدولة الإسلامية الحرية في اعتناق أية عقيدة، فمن
حق أهل الكتاب الخاضعين للدولة الإسلامية أن يمارسوا شعائرهم دون أن
يمنعهم من ذلك أحد، قال تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، وقال
سبحانه: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99]. وهذه هي كلمة
عمر الخالدة التي قالها لعمرو بن العاص عندما تسابق ابنه مع أحد المصريين
القبط فسبقه المصري، فضربه ابن عمرو بن العاص.
فاشتكى هذا الشاب لأمير
المؤمنين عمر، فاستدعى عمرًا وابنه، وأمر هذا الغلام أن يضرب ابن عمرو بن
العاص أمام أبيه، وقال له: اضرب ابن الأكرمين. وقال لعمرو: متى استعبدتم
الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وقد قرر الإسلام حريات أخرى كثيرة، مثل
الحرية المدنية؛ وهي حرية الشخص في عقد العقود، وتحمل الالتزامات، وقد
أقرها الإسلام لكل إنسان ما عدا الصبى والمجنون، ومن هذه الحريات؛ الحرية
السياسية، وحرية التفكير، والحرية في الإسلام مشروطة بعدم التعدي على مبادئ
الإسلام وعدم التعدي على حرية الآخرين.
صفات الحاكم المسلم
لقد شهدت
الحضارة الإسلامية حكامًا عظامًا، أعظمهم رسول الله (، وهو القدوة في كل
شيء، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله
واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا} [الأحزاب: 21].
وقد رأت الدنيا أجيالاً
متتالية من الحكام المسلمين ممن اتبعوا آثار رسول الله (، وتربوا على سنته
وما كان لهم في الأرض نظير، ولِمَ لا، وقد تعلموا ما قال الرسول (: (كلكم
راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ وهو مسئول
عن رعيته) [متفق عليه]. وقد اتضح لهم أن مسئولية الحاكم عظيمة القدر؛ لأنها
تتعلق بشئون الدين والدنيا، فلابد أن يكون أهلا لها بما يتوفر فيه من صفات
تجعله ينهض بأعباء المسئولية على خير وجه.
ومن أهم هذه الصفات:
-اعتقاده
أن السلطة تكليف وليست تشريفًا، فقد اختاره الشعب وبايعه بالرئاسة
لكفاءته، وبايعه على السمع والطاعة، وجعلوه وكيلاً عنهم في حماية أمور
الدين وتدبير شئون الحياة، ومن حق الشعب أن يراقبه ويحاسبه، أو يعزله إذا
انحرف من خلال أهل العقد والحل. وعلى الحاكم المسلم أن يعلم أنها أمانة،
وهي يوم القيامة خزي وندامة، إذا لم يؤدِّ حقها، فقد قال أبو ذر -رضي الله
عنه-: يا رسول الله، ألا تستعملني (تولني إمارة)؟ فقال رسول الله (: (يا
أبا ذر، إنك ضعيف إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها
بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها) [مسلم].
-أن يكون ذكيًّا فطنًا عالمًا
بأحكام الدين وقواعده العامة، وبذلك يستطيع تمييز الحلال من الحرام، فهو
الأمين على مصالح الأمة والراعي لها، كما ينبغى له أن يكون على أعظم معرفة
بأمور الدنيا، مثل الحرب والبيع والشراء، وعقد المعاهدات وغير ذلك.
-أن يتصف بالصفات الحسنة، كالأمانة والعفة والكرم، وأن يبتعد عن كبائر الذنوب وصغائرها.
-أن
يلتزم مبدأ الشورى في تدبير أمور الأمة في الأشياء التي ليس فيها نص من
القرآن أو السنة، فيستشير أهل الرأي والخبرة ليستفيد من عقولهم، وليستنير
بحسن تدبيرهم.
-وينبغي أن يكون سليم الحواس والأعضاء من نقص يمنع القيام
بأعباء الحكم، فلا يكون له أمراض كالجنون والصمم والخرس، وفَقْد بعض
الأعضاء، مثل اليدين والقدمين، وكل هذا مما يؤثر على عمله وقيامه به خير
قيام، وهكذا ندرك أن الإسلام أعطى مكانة عظيمة للسياسة والحكم لما لهما من
أهمية ونفع في تسيير أمور الحياة.